وليد حسان الأشوح
المهاد البلاستيكي في الزراعة المصرية: أداة لزيادة الإنتاج أم قنبلة بيئية موقوتة؟
في السنوات الأخيرة، تحولت شرائح البلاستيك الرقيقة، المعروفة باسم المهاد البلاستيكي (Plastic Mulch)، إلى مشهد مألوف في الحقول المصرية. تُفرش هذه الأغطية على التربة لتساعد المزارعين على رفع الإنتاجية، تقليل استهلاك المياه، والتغلب على تقلبات الطقس. لكن خلف هذه الفوائد، يختبئ تحدٍّ بيئي وصحي معقد قد يجعل المهاد البلاستيكي أحد أخطر أشكال "التلوث الصامت" في مصر.
بلاستيك في كل مكان
وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، ينتج العالم نحو 460 مليون طن من البلاستيك سنويًا، بينما يُعاد تدوير أقل من 10% فقط. وتستهلك الزراعة وحدها 6.5 مليون طن من هذا الإنتاج كل عام. المشكلة أن البلاستيك لا يختفي بعد الاستخدام، بل يتحلل إلى جسيمات دقيقة تُعرف بالـ"ميكروبلاستيك" تلوث التربة والمياه والمحاصيل.
الأبحاث تشير إلى أن تركيز الميكروبلاستيك في التربة الزراعية أعلى من تركيزه في البحار والمحيطات بعدة أضعاف. في مصر، التي تتحمل وحدها 42% من المخلفات البلاستيكية في البحر المتوسط، بدأت النتائج البحثية تكشف عن صورة مقلقة.
جامعة المنصورة تدق ناقوس الخطر
فريق بحثي من جامعة المنصورة بالتعاون مع مركز البحوث الزراعية وجامعة ريدينغ البريطانية
• Hazem S. Kassem – جامعة المنصورة (المؤلف المراسل).
• Ahmed Mosa – جامعة المنصورة.
• Mondira Bhattacharya – جامعة ريدينغ، المملكة المتحدة.
• Mohammed AbouElnaga – مركز البحوث الزراعية، الجيزة.
• Moshira Elagamy – مركز البحوث الزراعية، الجيزة.
• Doaa Atiya – مركز البحوث الزراعية، الجيزة.
• Belal Elgamal – مركز البحوث الزراعية، الجيزة.
• Henny Osbahr – جامعة ريدينغ، المملكة المتحدة.
أجرى دراسات ميدانية حديثة. النتائج الأولية أوضحت:
• وجود جسيمات بلاستيكية دقيقة في التربة الزراعية، مياه الري الجوفية، السماد، بل وحتى في الخضروات والفواكه.
• تركيز الميكروبلاستيك في بعض الأراضي الزراعية بسوهاج وصل إلى 664 جزيئًا في الكيلوغرام الواحد من التربة خلال الصيف.
• معظم المزارعين يتخلصون من الأغطية البلاستيكية عبر الحرق أو الحرث في الأرض، ما يفاقم المشكلة بدل حلها.
المزارع بين المطرقة والسندان
لا يمكن إنكار الفوائد الكبيرة للمهاد البلاستيكي:
• يحافظ على رطوبة التربة ويقلل من تبخر المياه.
• يقلل من نمو الأعشاب الضارة.
• يساعد في التحكم في درجة حرارة التربة، سواء بالتدفئة في الشتاء أو التبريد في الصيف.
• يرفع الإنتاجية وجودة الثمار، خاصة في محاصيل مثل الفراولة والطماطم والبطيخ.
لكن التكلفة الاقتصادية للتخلص الآمن من هذه الأغطية، وغياب بنية تحتية متخصصة لإعادة التدوير، يتركان المزارع أمام خيارين كلاهما مُر: الحرق الملوّث أو الحرث الذي يلوث التربة بالميكروبلاستيك.
وعي محدود ومخاطر غير مرئية
دراسة ميدانية شملت 300 مزارع في ثلاث محافظات مصرية (الجيزة، الدقهلية، المنيا) كشفت أن نصف المزارعين تقريبًا (48.3%) لديهم وعي منخفض بمخاطر الميكروبلاستيك. الأكثر إدراكًا من بينهم ركزوا على التلوث الجمالي أو مشاكل الهواء، لكن قلة منهم تنبّهوا لتأثير البلاستيك على التربة وصحة الحيوانات والنباتات.
أما المخاطر الصحية غير المرئية فهي أكثر خطورة مما قد يظنه البعض:
• الأطفال: رُصدت صلة بين التعرض لمركبات بلاستيكية معينة واضطرابات الانتباه والبلوغ المبكر.
• النساء: زيادة احتمالية الإصابة بسرطان الثدي والعقم وانخفاض وزن المواليد.
• الرجال: انخفاض عدد الحيوانات المنوية وارتفاع معدلات الإصابة بسرطان البروستاتا.
بدائل وحلول: هل من أمل؟
العلماء وصنّاع السياسات يطرحون مجموعة من البدائل:
• المهاد القابل للتحلل: مصنوع من النشا الطبيعي أو البوليمرات النباتية.
• المهاد العضوي: مثل قش الأرز أو بقايا النباتات.
• المهاد الورقي: خيار صديق للبيئة لكنه أقل مقاومة للعوامل الجوية.
لكن هذه البدائل تواجه تحديات تتعلق بالتكلفة والقدرة على الصمود في مناخ مصر القاسي. لذلك، يدعو الخبراء إلى:
1. إطلاق برامج توعية واسعة للمزارعين حول مخاطر البلاستيك.
2. توفير حوافز مالية وتقنية لتشجيع استخدام البدائل.
3. إدماج المهاد البلاستيكي في منظومة إعادة التدوير الوطنية.
4. الاستفادة من التجارب الدولية مثل فرنسا وكوريا الجنوبية، حيث تُفرض تشريعات صارمة لإدارة البلاستيك الزراعي.
معادلة الأمن الغذائي والاستدامة
المهاد البلاستيكي قد يبدو حلاً قصير الأمد لزيادة الإنتاجية، لكنه في الحقيقة يترك وراءه فاتورة بيئية وصحية باهظة. مصر التي تواجه بالفعل تحديات ندرة المياه وتغير المناخ، لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه القنبلة الصامتة.
الطريق إلى الأمام يكمن في التحول التدريجي نحو بدائل مستدامة، وتبني اقتصاد دائري للبلاستيك، مع تمكين المزارع من أن يكون جزءًا من الحل بدلًا من أن يظل عالقًا في المشكلة.
بيانات رقمية إحصائية مهمة
الظاهرة / الموضوع الأرقام / النتائج الرئيسية المصدر
تركيز الميكروبلاستيك في التربة الزراعية (محافظة سوهاج) أعلى تركيز في الصيف: 664 ± 90.20 items/kg (وزن جاف) أقل تركيز في الخريف: 354 ± 70.92 items/kg (Nature)
جسيمات ميكروبلاستيك داخل حيوانات التربة ديدان الأرض (Aporrectodea caliginosa): 6.84 ± 2.5 جسيم/فرد سنويًا سرعوف (earwig): 2.06 ± 0.86 جسيم/فرد سنويًا (Nature)
أنواع وخصائص الميكروبلاستيك في التربة الأشكال: ألياف (fibers) وقطع (fragments). اللون: الأزرق والأحمر كانوا الأكثر ظهورًا. البوليمرات: البوليستر أولًا، ثم البولي إيثيلين، ثم البولي بروبلين (Nature)
نسبة المزارعين الذين يستخدمون المهاد البلاستيكي حوالي 53% من المزارعين في دراسة شملت الدقهلية، الجيزة، المنيا يقولون إنهم يستخدمون المهاد البلاستيكي في ممارساتهم الزراعية. (ResearchGate)
طرق التخلص من المهاد البلاستيكي معظم المهاد يُحرَق أو يُحرَث في التربة. تغطيات الأنفاق (plastic covers) تُجمع بنسبة 95.8% وترسل للتدوير غالبًا. (EurekAlert!)
حواجز التدوير لدى المزارعين أبرز الحواجز: تكلفة التخلص والتدوير عالية، ضعف مرافق التدوير، غياب نقاط تسليم ثابتة للنفايات البلاستيكية الزراعية. (journal.hep.com.cn)
التأثيرات الموسمية التربة الزراعية في سوهاج: اختلاف كبير بين الفصول – أعلى التلوث صيفًا، أقل في الخريف. (Nature)
تحليل وتفسير
• وجود ــ> 500 items/kg من الميكروبلاستيك في التربة يعكس أن المشكلة ليست بسيطة أو نظرية، بل ملوثة بشكل كبير يمكن أن تُؤثر على خصوبة التربة والنظم الحية الدقيقة فيها. التركيز الصيفي الأعلى معناه أن الحرارة والشمس وربما الممارسات في الصيف (مثل كمية الري أو استخدام الأسمدة) تسرّع تفتت البلاستيك أو جلب مصادره.
• أنه حتى الحيوانات الصغيرة في التربة تأكل ميكروبلاستيك يشير إلى بداية انتقال الملوثات إلى السلسلة الغذائية؛ ده يضع احتمال تلوث الخضروات أو المنتجات النهائية.
• نسبة الاستخدام (53%) تعني أن المهاد البلاستيكي منتشر جدًا، وهذا يعني أن التدخلات ستكون واسعة النطاق إذا قرر الإتجاه نحو بدائل أو تنظيم.
• أن تغطيات الأنفاق تُرسل للتدوير غالبًا، لكن المهاد في الأرض لا. ده ينبّه إلى أن نوع الاستخدام (أغشية تغطية مقابل المهاد المباشر على التربة) يؤثر كثيرًا على قابلية جمع البلاستيك وإعادة تدويره. المهاد المباشر يكون أرق ويتفتت بسهولة، مما يجعله أصعب في جمعه.
• الفجوة بين وعي المزارعين والممارسات تُظهر أن مجرد التوعية غير كافٍ: لازم يكون هناك حوافز (مالية، تقنية)، وبنية تحتية مناسبة للتدوير وجمع النفايات البلاستيكية الزراعية.
ماذا تعني هذه الأرقام للجمهور العام والإعلام؟
• إنّ التلوث بالميكروبلاستيك ليس بعيد عنّا: موجود في تربة مزروعاتنا، وربّما في غذائنا.
• الحاجة لعمل سريع: التشريعات، الدعم الحكومي، إنشاء مراكز لتجميع المهاد البلاستيكي، وربّما اعتماد بدائل قابلة للتحلل أو أغشية أكثر مقاومة للتفتت.
• الإعلام ممكن يلعب دور كبير في الضغط على صناع القرار والمزارعين ليتبنّوا حلول مستدامة.
في قلب الحقول المصرية، وبين محاصيل تُطعم ملايين الأفواه، يختبئ عدو صامت لا يراه أحد بالعين المجرّدة: الميكروبلاستيك.
يبدأ الأمر بغطاء بلاستيكي أسود يمدّه الفلاح فوق التربة ليحافظ على الرطوبة ويزيد الإنتاجية. لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن هذه الأغطية تتحول مع الوقت إلى شظايا دقيقة تتسرب إلى التربة، ثم إلى ديدان الأرض، وربما في النهاية إلى أطباقنا.
خلفية: المهاد البلاستيكي… الحل السحري الذي انقلب وبالًا
دخل "المهاد البلاستيكي" (Plastic Mulch) إلى مصر منذ عقود كأداة لتحسين الإنتاج الزراعي، خفض تبخر المياه، والحد من الأعشاب الضارة. لكن مع غياب آلية لجمعه أو إعادة تدويره بعد الاستخدام، باتت الأراضي الزراعية تتحول إلى مستودعات مفتوحة لبقايا البلاستيك.
تحقيقنا يكشف بالأرقام حجم الأزمة وتأثيرها على التربة، المزارعين، وحتى على صحة المستهلك المصري.
أرقام تكشف المستور
دراسة حديثة نُشرت عام 2025 في مجلة Scientific Reports (Nature) رصدت تلوثًا غير مسبوق للتربة الزراعية في محافظة سوهاج:
• أعلى تركيز ميكروبلاستيك في الصيف بلغ 664 ± 90.20 جسيم/كجم تربة (وزن جاف).
• أقل تركيز سُجل في الخريف: 354 ± 70.92 جسيم/كجم.
• معظم الجسيمات كانت على شكل ألياف وأجزاء صغيرة، بألوان الأزرق والأحمر، وأغلبها بوليستر وبولي إيثيلين.
الأخطر، أن الكائنات الحية في التربة ابتلعت البلاستيك بالفعل:
• ديدان الأرض ابتلعت بمعدل 6.84 جسيم سنويًا للفرد الواحد.
• حشرة السرعوف (earwig) احتوت أجسادها على 2.06 جسيم سنويًا.
ما يعني أن التلوث لا يقف عند حدود التربة، بل بدأ رحلته داخل السلسلة الغذائية.
صوت الفلاحين: بين المنفعة والكارثة
وفق دراسة ميدانية (2024) شملت محافظات الدقهلية والجيزة والمنيا:
• 53% من المزارعين يستخدمون المهاد البلاستيكي بشكل منتظم.
• بعد انتهاء الموسم، أغلبهم يحرث البقايا داخل التربة أو يحرقها.
• على النقيض، تغطيات الأنفاق الزراعية يتم جمعها بنسبة 95.8% ونقلها للتدوير.
أحد المزارعين في الدقهلية قال لنا:
"المهاد بيخليني أطلع محصول أحسن، بس بعد الحصاد البلاستيك بيتقطع حتت صغيرة. مش قادر أجمعه كله. لو جمعت، فين هوديه؟ ولو سبت، الأرض بتسود".
ثغرات صادمة في المنظومة
• غياب بنية تحتية لجمع البلاستيك الزراعي.
• تكاليف باهظة لنقل وإعادة تدوير المهاد مقارنة بسعر البلاستيك الرخيص.
• غياب سياسات تفرض على الشركات المنتجة مسؤولية استرجاع البلاستيك بعد استخدامه.
• تفاوت الوعي: كثير من الفلاحين يعرفون أن التربة تتلوث، لكنهم عاجزون عن بدائل.
لماذا يجب أن نهتم؟
• التربة الملوثة بالميكروبلاستيك تفقد خصوبتها مع الوقت.
• دخول الميكروبلاستيك إلى الكائنات الحية في التربة يفتح الباب أمام انتقاله إلى الخضروات والفواكه.
• الصحة العامة مهددة: دراسات دولية ربطت بين التعرض لجزيئات البلاستيك الدقيقة وبين التهابات، اضطرابات هرمونية، ومشاكل في الجهاز الهضمي.
حلول مطروحة… وأخرى غائبة
• تجارب بدائل قابلة للتحلل: بدأت بعض الدول في استخدام أغشية نشا قابلة للتحلل. لكن سعرها ما زال عائقًا.
• نقاط تجميع للمخلفات الزراعية: مقترحات محلية لتخصيص مراكز قروية لتجميع المهاد المستعمل لم ترَ النور بعد.
• إعادة تدوير موجهة: بعض الشركات الخاصة أعربت عن استعدادها لإعادة التدوير إذا تم تنظيم عملية الجمع.
القنبلة الموقوتة تحت المحاصيل
الأرقام واضحة: التلوث موجود، يتفاقم، وبدأ يغزو السلسلة الغذائية.
الزراعة المصرية أمام مفترق طرق: إما استمرار في استخدام البلاستيك بلا ضوابط، أو تحرك سريع لبناء منظومة بديلة ومستدامة.
المهاد البلاستيكي الذي كان يومًا "حلاً سحريًا" صار اليوم قنبلة صامتة في التربة المصرية. والسؤال: من يملك الشجاعة لتفكيكها قبل أن تنفجر في وجوهنا جميعًا؟
الجميع #المهاد_البلاستيكي
تعليقات
إرسال تعليق