وليد حسان الأشوح
حضارة بروح المستقبل: رؤية مصرية للاستدامة من الفكر القديم
ملخص تنفيذي
تقدم مبادرة "حضارة بروح المستقبل" رؤية وطنية رائدة تهدف إلى بناء جسر فكري بين أصالة الحضارة المصرية القديمة والمفاهيم المعاصرة للاستدامة. تنطلق المبادرة من فكرة جوهرية مفادها أن الاستدامة ليست مفهوماً مستورداً أو حديثاً، بل هي إرث حضاري خالد متجذر في عمق الفكر المصري القديم، ومجسد في فلسفة "ماعت" التي حكمت الكون والحياة على أسس من العدالة والنظام والتوازن.
تستلهم المبادرة من حكمة المصري القديم في إدارة الموارد، واحترام الطبيعة، وبناء مجتمع متكامل، لتقدم نموذجاً فريداً يدمج البعد الثقافي والحضاري في الخطاب البيئي الحديث. تسعى الرؤية إلى إثبات أن المبادئ التي قامت عليها الحضارة المصرية - من التفكير الكلي، والحوكمة الأخلاقية، والعمارة الصديقة للبيئة، إلى الاقتصاد الإبداعي - هي ذاتها الأسس التي تقوم عليها أهداف التنمية المستدامة اليوم. من قلب المتحف المصري الكبير، تعلن مصر أن الاستدامة ليست مجرد سياسة بيئية عالمية، بل هي وعي حضاري ممتد لآلاف السنين، وأن حكمة الأمس هي البوصلة لبناء غدٍ أكثر عدلاً واتزاناً.
--------------------------------------------------------------------------------
مبادرة "حضارة بروح المستقبل": الرؤية والأهداف
طرح المهندس وليد حسان الأشوح، خبير الاستدامة وعضو الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN)، مبادرة وطنية بعنوان "حضارة بروح المستقبل" لتكون بمثابة منصة فكرية ومجتمعية تربط بين أصالة الحضارة المصرية ورؤية الاستدامة الحديثة، في عصر تتزايد فيه التحديات البيئية التي تتطلب حلولاً أكثر إبداعاً وإنسانية.
الرؤية والرسالة
* الرؤية: استلهام فلسفة التفكير عند المصري القديم في بناء منظومة استدامة بيئية معاصرة، تُعزز التكامل بين الهوية الحضارية المصرية والنهج العلمي الحديث لإدارة الموارد الطبيعية وحماية البيئة.
* الرسالة: تعزيز الوعي البيئي المجتمعي من خلال ربط القيم الحضارية المصرية القديمة - كالعدالة، والنظام، والتوازن (ماعت) - بمبادئ الاستدامة الحديثة وتوظيفها في دعم الاقتصاد الأخضر والممارسات المسؤولة بيئياً.
الأهداف العامة
* دمج البعد الثقافي والحضاري في الخطاب البيئي المصري.
* نشر الوعي بمفاهيم الاستدامة في المدارس والجامعات والمجتمع المدني.
* إبراز الريادة المصرية التاريخية في التفكير البيئي المتكامل.
* دعم جهود الدولة في تنفيذ استراتيجيات التنمية المستدامة.
* تشجيع الشراكات بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
المحاور الرئيسية للمبادرة
1. الهوية البيئية المصرية: إعادة قراءة التراث المصري القديم كمصدر إلهام للسياسات البيئية المعاصرة.
2. الابتكار الأخضر: دعم الحلول البيئية المستوحاة من الطبيعة والتقنيات النظيفة.
3. الاستدامة الثقافية: دمج مفاهيم الاستدامة في الفنون، والعمارة، والتعليم.
4. المواطنة البيئية: بناء وعي جمعي يحترم الموارد ويؤمن بمسؤولية الأجيال الحالية تجاه المستقبل.
رسالة رمزية: "إن مبادرة حضارة بروح حضارة ليست مشروعًا بيئيًا فحسب، بل فلسفة وطنية تُعيد صياغة علاقة المصري بالبيئة، وتؤسس لجيلٍ يرى في الطبيعة شريكًا لا موردًا. إن استدامة الغد تبدأ من استعادة حكمة الأمس".
--------------------------------------------------------------------------------
الفكر المصري القديم وجذور الاستدامة
لم تكن الاستدامة فكرة مستوردة في مصر، بل وُلدت من ضمير حضارة آمنت بأن "الكون نظام أخلاقي قبل أن يكون بيئيًا". يجمع الفكر المصري القديم بين الروح والعلم، والأخلاق
والطبيعة، في رؤية شمولية تعكس جوهر التنمية المستدامة.
كتيب فلسفة الاستدامة من ماعت الي المتحف المصري الكبير
نوع التفكير
التفكير الكلي (Holistic Thinking) رأى المصري القديم الكون كوحدة متكاملة لا انفصال فيها بين الإنسان والطبيعة، أو الروح والمادة. أي خلل في جزء يصيب الكل، فكل شيء مترابط في نسيج واحد.
التفكير العملي التجريبي في مجالات الزراعة والطب والفلك والعمارة، اعتمد المصري القديم على منهج علمي دقيق قائم على الملاحظة والتجريب والتوثيق، كوسيلة لبقاء الحياة وتنظيمها.
التفكير الرمزي استخدم الرموز كجسر بين المحسوس والمجرد؛ فالنيل رمز للعطاء والديمومة، والصحراء رمز للصبر، ودورة الليل والنهار تجسيد لدورة الحياة والتجدد.
التفكير الأخلاقي الكوني (ماعت) آمن بأن النظام الكوني يقوم على مبدأ "ماعت" الأخلاقي الذي يشمل الحق والعدل والاتزان. كان الإنسان مسؤولاً عن حفظ هذا التوازن، والإخلال به يُعد جريمة كونية.
التفكير المستقبلي لم تكن فكرة "الخلود" هروبًا من الموت، بل إيمانًا بالاستمرارية ودعوة لترك أثر صالح يبقى كوصية للأجيال القادمة.
--------------------------------------------------------------------------------
فلسفة "ماعت": جوهر العدالة الكونية والاستدامة
لم تكن "ماعت" مجرد إلهة، بل كانت فكرة فلسفية كبرى تجسّد القانون الأخلاقي الذي ينظم علاقة الفرد بالمجتمع، والمجتمع بالكون، والإنسان بالأرض. ومن خلالها، أسس المصريون واحدة من أقدم منظومات الاستدامة الأخلاقية والبيئية في التاريخ.
* المبدأ الأول: العدالة والحق (Truth & Justice): آمن المصري القديم أن العدالة ليست قانونًا يُفرض، بل وعي يُمارس. يظهر هذا في مفهوم "القلب الخفيف" في كتاب الموتى، حيث لا ينجو الإنسان إلا إذا كان قلبه خفيفًا من الظلم والكذب.
* المبدأ الثاني: التوازن (Balance): لكل شيء في الكون كفة تحفظ اتزانه (النيل والصحراء، النهار والليل). كان هذا الوعي بالتوازن سلوكًا يوميًا يقوم على نبذ الإسراف والجشع والفوضى.
* المبدأ الثالث: النظام الكوني (Order): كانت الفوضى نقيض "ماعت". النظام لم يكن مفهومًا إداريًا فحسب، بل قانونًا كونيًا يشمل الأخلاق والزراعة والإدارة وحركة النجوم.
* المبدأ الرابع: المسؤولية (Responsibility): رأى كل إنسان نفسه جزءًا من منظومة كونية ومسؤولاً عن حفظ توازنها. هذا المفهوم هو ما يُعرف اليوم بـ "المواطنة البيئية"، حيث يؤثر التصرف الفردي في صياغة مستقبل الأرض.
* المبدأ الخامس: الانسجام بين الإنسان والطبيعة (Harmony): لم يُنظر إلى الطبيعة كشيء يُستغل، بل ككائن حيّ يُحترم. كانت الزراعة طقسًا مقدسًا، والماء رمزًا للنقاء، والإخلال بعناصر الطبيعة هو إخلال بالعدالة الإلهية.
--------------------------------------------------------------------------------
الحوكمة والأخلاق: من حكمة بتاح حتب وآني إلى الاستدامة الحديثة
سبق حكماء مصر فلاسفة العالم بقرون في إرساء مبادئ القيادة الأخلاقية والحوكمة المستدامة، حيث أدركوا أن العدالة ميزان كوني يربط الإنسان بالطبيعة، وأن القيادة تُمارس بالحكمة لا بالقوة.
تعاليم بتاح حتب: الحوكمة تبدأ من الإصغاء
تُعد وصايا الوزير بتاح حتب (حوالي 2400 ق.م) من أقدم النصوص الأخلاقية في التاريخ. قدمت تعاليمه دعوة لأن تكون الأخلاق أساس الحكم والإدارة، وأن يسود التواضع والاتزان.
* الفكرة الجوهرية: الحكمة هي الطريق نحو النظام الكوني (ماعت)، وقيمة الإنسان تُقاس بعدله واحترامه للآخرين.
* من وصاياه الخالدة:
* "لا تتكبر بعلمك، بل استشر الجاهل كما تستشير العالِم."
* "من يسمع يُحب، ومن لا يسمع يُكره، والسمع خير من كل شيء."
* الأثر: قدّم بتاح حتب أول نموذج لما يُعرف اليوم بـ "القيادة التحاورية" التي تستمع وتشارك وتوازن بين السلطة والمسؤولية، ووضع أسس الحوكمة الرشيدة.
تعاليم آني: العدالة طريق التوازن الإنساني
في الدولة الحديثة (حوالي 1300 ق.م)، كتب الحكيم آني وصاياه التي تجمع بين العدالة الاجتماعية والرحمة الإنسانية، مؤكدًا أن العدل يمتد ليشمل سلوك كل إنسان في حياته اليومية.
* الفكرة الأساسية: الحياة رحلة نحو التوازن، والسلوك القويم هو ما يُبقي الإنسان في انسجام مع الكون والضمير.
* من أقواله:
* "لا تكن قاسيًا على الضعيف، فإن العدالة تعيش إلى الأبد."
* "عامل الناس بما تحب أن يُعاملوك به."
* الأثر: رسّخ آني مفهوم "الاستدامة الإنسانية"، مؤكدًا أن الرحمة والعدالة ليست فضائل فردية، بل أسس بقاء المجتمع واستقراره.
--------------------------------------------------------------------------------
الفكر البيئي في الحضارة المصرية: تطبيقات عملية
لم يقتصر فكر المصري القديم في العدالة على الإنسان، بل امتد ليشمل الطبيعة ذاتها، التي اعتبرها كائنًا حيًا له قدسيته. وكان أي اعتداء عليها يُعد خرقًا للنظام الإلهي.
الميثاق الأخلاقي البيئي في كتاب الموتى
أبرز تعبير عن هذا الفكر يظهر في "الاعترافات الإنكارية" التي يُعلنها المتوفى أمام محكمة الآخرة ليثبت براءته من الأفعال التي تخل بتوازن الكون:
* "لم ألوث ماء النيل."
* "لم أقطع شجرة."
* "لم أمنع الماشية من الأكل من عشبها."
* "لم أصنع فخاخًا لعصافير الآلهة."
* "لم أصد سمكة من بحيراتها." هذه الاعترافات تكشف أن احترام البيئة كان واجبًا دينيًا وأخلاقيًا مرتبطًا بنقاء الروح وتحقيق العدالة الكونية.
الفن كوعي بيئي مستدام
لم يكن الفن مجرد وسيلة للتزيين، بل لتكريم الأرض والماء والسماء. كان الفنان المصري يرى في الطبيعة الملهم الأول، وكانت أعماله شهادة على انسجام الإنسان مع بيئته.
* رمزية الألوان: كان لكل لون رمز روحي دقيق (الأحمر للحياة، الأخضر للنماء، الأزرق للخلود، الأسود للبعث، الأصفر للأبدية).
* زهرة اللوتس: رمزت للخلق والبعث والنقاء، وارتبطت بالإله رع (الشمس). كانت تجسيدًا للتوازن بين الأرض والسماء، والمادة والروح.
* استدامة الجمال: استخدم المصريون المواد الطبيعية المحلية (الطين، الأحجار، المعادن، الألوان النباتية) لصياغة أعمال قاومت الزمن، ممارسين بذلك الاستدامة دون أن يسموها.
العمارة الخضراء: بناء بروح الطبيعة
صُممت المعابد والبيوت والمقابر وفق مبدأ "ماعت"، محترمة قوانين الطبيعة.
* التوجيه الشمسي: تم توجيه المباني بدقة فلكية لاستقبال الشمس في لحظات محددة، كما في معبد أبو سمبل، وهو وعي استدامي مبكر يوظف الطاقة الشمسية في خدمة الجمال والروح.
* المواد المحلية والتهوية الطبيعية: استخدمت خامات محلية (الحجر الجيري، الطوب النيء)، وصُممت أنظمة تهوية طبيعية (نوافذ عليا وممرات طولية) تعمل كأنظمة تبريد سلبية، وهو ما يُعرف اليوم بـ Passive Design.
الزراعة المستدامة في وادي النيل
كانت الزراعة فلسفة حياة تمزج بين الإيمان والعلم والإدارة البيئية الدقيقة.
* النيل كمعلم بيئي: علّم فيضان النيل المصريين معنى الدورة الطبيعية والتخطيط البيئي. كانت العلاقة به تكافلية وليست استغلالية، مما يمثل أول تعبير عملي عن "الإدارة المستدامة للموارد المائية".
* التقويم الزراعي: قُسّم العام إلى ثلاثة فصول بيئية دقيقة (الفيضان "آخت"، الإنبات "برت"، الحصاد "شمو")، مما يعكس فهمًا عميقًا للبيئة.
الحِرَف والاقتصاد الدائري
لم يفصل المصري القديم بين العمل والفن؛ كان الإتقان مبدأ مقدسًا.
* التخصص والجودة: أدى نظام التخصص والتدريب المهني الصارم إلى بناء اقتصاد قائم على الكفاءة.
* نموذج مبكر للاقتصاد الدائري: كانت كل خامة تُستغل بالكامل؛ بقايا الحجر تُعاد لاستخدامها، والفضلات العضوية تُحوّل لسماد، والمعادن تُذاب لتُشكّل من جديد. هذه الممارسات تشبه مفاهيم "الوظائف الخضراء" (Green Jobs) و"الاقتصاد الدائري" (Circular Economy) الحديثة.
الملكية الفكرية كقيمة أخلاقية
قبل القوانين، عاش المصري القديم وفق مبدأ أخلاقي يحترم حق الإبداع.
* الفكرة كملكية مقدسة: كان نسخ النصوص أو تقليد الأعمال يُعد تعديًا على "ماعت". كان الكتبة والفنانون يوقعون أعمالهم، في إشارة مبكرة لـ"نَسب العمل إلى صاحبه".
* المعرفة كأمانة: لم تكن المعرفة سلعة تُباع، بل أمانة تُسلَّم من جيل إلى جيل، ويُحاسب من يسيء استخدامها. رسخت تعاليم الحكماء مبدأ "لا تنسب قولاً لغير قائله".
--------------------------------------------------------------------------------
من "ماعت" إلى الحوكمة الحديثة وأهداف التنمية المستدامة
تجسد فلسفة "ماعت" أول نموذج للحوكمة في التاريخ، حيث كانت مبدأ حاكمًا للدولة والمجتمع. نجد في نصوص الحكماء المصريين نواة مبكرة لمبادئ الحوكمة الرشيدة التي تقوم عليها مؤشرات ESG اليوم:
* المساءلة والشفافية: "ليكن قلبك نقيًا، فإن السر سيُكشف يومًا."
* سيادة القانون: "لا تضع حكمك على من تحب، ولا تظلم من تكره."
* العدالة الاجتماعية: "أطعم الجائع، واكس العريان، كي يستقيم الميزان."
التراث وأهداف التنمية المستدامة 2030
في العصر الحديث، يتقاطع هذا الإرث الحضاري مع الأهداف العالمية للتنمية المستدامة. أكدت الأمم المتحدة أن حماية التراث الثقافي والطبيعي هي إحدى ركائز التنمية الشاملة، وهو ما يظهر في عدة أهداف:
الهدف الغاية ذات الصلة بالتراث
الهدف 11: مدن ومجتمعات محلية مستدامة تعزيز الجهود الرامية إلى حماية وصون التراث الثقافي والطبيعي العالمي.
الهدف 4: التعليم الجيد ضمان اكتساب المتعلمين المعارف والمهارات اللازمة لتعزيز التنمية المستدامة، بما في ذلك تقدير التنوع الثقافي ومساهمة الثقافة.
الهدف 8: العمل اللائق والنمو الاقتصادي وضع وتنفيذ سياسات لتعزيز السياحة المستدامة التي تخلق فرص عمل وتُروّج للثقافة والمنتجات المحلية.
الهدف 12: الاستهلاك والإنتاج المسؤولان تشجيع أنماط إنتاج تحترم الموارد والمواد التراثية (مثل الحرف اليدوية والمواد الأصيلة).
إن حماية التراث ليست فعلاً ماضويًا، بل رؤية استشرافية تُعيد توظيف الهوية في خدمة الاقتصاد والتعليم والوعي البيئي، مؤكدة أن الهوية المستدامة هي التي تصون روح المكان عبر الأجيال.
خاتمة: "نحن لا نُعيد قراءة التاريخ لنتغنى به، بل لنتعلم منه كيف نبني غدًا أكثر عدلاً واستدامةً. وهكذا، تُعلن مصر من جديد أن حضارتها لم تكن في الماضي فقط، بل هي حضارة بروح المستقبل."
Walled Ashwah Grand Egyptian Museum الجميع #كتاب_فلسفة_الإستدامة_من_ماعت_المتحف_المصري_الكبير #حضارة_بروح_المستقبل






تعليقات
إرسال تعليق